فلسفة الابتعاث
بسم الله الرحمن الرحيم
منذ مدة ليست بقصيرة و أنا أفكر كثيراً في طريقة الابتعاث التي تقوم بها حكومتنا الرشيدة من خلال هيئة التعليم العالي، أو الشركات الشبه الحكومية أو الخاصة أو غيرها.
سبب اهتمامي في الموضوع هو أني خضت تجربة الابتعاث، و الحمدلله الذي وفقني من الانتهاء منها بشهادة هندسة ميكانيكية خولتني أن أصعد درجة في السلم الاجتماعي، بل في الحقيقة درجتين، درجة للشهادة الجامعية، و درجة لتجربة الغربة.
عندما بدأت في العمل في الشركة المتميزة رأس غاز، احتككت بطلاب الابتعاث الداخلي والذين يمثلون المدينة التعليمية و طلاب جامعة قطر، و هذا ما جعلني أفكر في التجربة التي خضتها و خاضها و سيخوضها مئات غيري. تجربة الابتعاث الخارجي.
كما هو معلوم أن دولة قطر تولي اهتماماً في الاستثمار البشري يفوق كثيراً دول الجوار، و لكن هذه الاهتمام يحتاج إلى توجيه، و التوجيه لابد أن يأتي مِن مَن خاض هذه التجربة.
دعوني أحدثكم عن شخصية قرأت عنها خاضت نفس التجربة التي خضتها، و أصبحت ملهماً بها لأنها غيرت مستقبل دولة عظيمة صناعياً. هذه الشخصية اليابانية الملهمة هي تاكيو أوساهيرا، الرجل الذي أبتعثه البلاط الأمبراطوري إلى ألمانيا لتعلم صناعة محركات السيارات، عندما قرأت التجربة التي خاضها هذا الرجل في ألمانيا، علمت بأني لم أخض نفس التجربة بتاتاً و إنما ذهبت للتنزه و العودة بشهادة !و كأن لسان حال تجربته يقول لتجربتي ما قاله ابن المبارك للفضل بن عياض (يا عابد الحرمين لو أبصرتنا …. لعلمت أنك في العبادة تلعب) فعلاً لا أمزح، و السبب يعود إلى أنه كان هناك سباب وراء ذهاب هذا الرجل إلى هناك، كان هناك هدف من الابتعاث، و هو فتح باب جديد لسوق العمل، لا سد فراغ السوق !
و بالفعل تمكن تاكيو من إحراز الغاية التي من أجلها ترك أهله و وطنه، و من أجلها صُرفت عليها مبالغ كبيرة. وأضف إلى ذلك أنه لم يوافق على طلب مقابلة الإمبراطور له إلا بعد أن صنع ستة محركات، وجاء بها إلى قصره ليسمعه أجمل موسيقى استمع إليها الإمبراطور. سمفونية المحركات.
لماذا نقوم بإبتعاث الطلبة ؟ ما الغاية المرجوة من أن تصرف الملايين على الشباب؟ ما الذي نريده من الشباب المبتعث عندما يعود؟ ماذا نريده أن يستورد و ماذا نريده أن يصدر؟ نعم الابتعاث هو استثمار بشري، لكنه غير فعّال بالطريقة التي نقوم بها. و عندما أقول أنه غير فعّال أكون قد قارنت بين طلبة جامعة قطر و بين أي طالب مبتعث سواء في الخارج أو في المدينة التعليمية. طلاب جامعة قطر لا يختلفون عنا! نعم و هذه الحقيقة صدمتني، بل قد يتفوقون علينا أكاديمياً و فنياً. كنت أظن بأنني سأكون “باشا” على العقل الوضيع الذي تخرج من جامعة “قهر” (مع إحترامي لهم جميعاً) إلا أنهم أحرجونا و أحرجوا مسؤولينا بكفاءتهم الفذة.
أظن بأن فلسفة الابتعاث التي نقوم بها في دولة قطر هي فلسفة المعلبات كما يحلو لي أن أسميها، فنحن نقوم بابتعاث الطلاب ليأتوا لنا كمعلبات مهندسين، أو محاسبين، أو قانونيين و هلم جرى. و كل هذا لتغطية حاجة سوق العمل للتقطير، و حاجة سوق العمل هي التي كما أسميها الكذبة التي أنطلت علينا نحن الطلاب. نحن القطريين لن نسد حاجة سوق العمل، فعندما ننظر إلى التركيبة السكانية و حاجة سوق العمل, من غير المنطقي أن نطالب ابناء البلد بأن يسدوا هذا الجوع، فنسبة القطريين من القوى العاملة هي ٦،٤٪ و هذا يعني أننا قيمة لا تذكر في سوق العمل، و الحقائق غالباً مُرة !
حسناً ما الذي أريد أن أصل إليه؟ أعلم جيداً بأن أي مشروع ناجح هو مشروع سبقه تخطيط ناجح قائم على هدف واضح، إلا أن يمشي بالبركة ! أريد أن أعرف ما هو المشروع الذي نريد من المبتعثين أن يتولوه عند قدومهم ؟ عندما عدت من من بريطانيا متخرجاً و عملت في شركة رأس غاز، لم أستفد كثيراً من المواد الأكاديمية التي درستها في الجامعة، و السبب يعود إلى أن المنهج الذي درسته كان يركز على ميكانيكية السيارات بإختلاف ما هو في الواقع القطري و هو مجال النفط و الغاز، فهل سددت حاجة السوق و أنا متخرج من مجال لا علاقة له به؟ خذ هذا المثال الذي أريده أن يكون مفهوماً للإبتعاث: مشروع برزان لإنتاج الغاز هو مشروع مستقبلي سينتهي سنة ٢٠١٤ بإذن الله تعالى، و سيكون لإنتاج الغاز في الداخل مما يعني زيادة وفرة الطاقة الداخلية لقطر، قامت مؤسسة قطر للبترول بالتعاون مع الشركات التابعة لها بإبتعاث مجموعة من الموظفين إلى اليابان لتعلم كيفية بناء هذا المشروع من الصفر. و بإذن الله سيعودون و هم أكفاء لهذا المشروع الضخم الجميل.
ما هو المشروع الذي نخطط لبناءه حتى نبعث الطلاب بهذه الصورة؟ أم أن ابتعاثنا لهم قائم على عشوائية ؟
اتمنى مراجعة أنفسنا، اتمنى إعادة صياغة الفلسفة القطرية من وراء الابتعاث، و أخيراً، اتمنى أن يخرج من بين أظهرنا تاكيو أوساهيرا ومن هو أفضل منه.
والله ولي التوفيق.
Leave a comment